فصل: سنة إحدى وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثلاثمائة:

.ذكر عزل الخاقانيّ عن الوزارة ووزارة عليّ بن عيسى:

في هذه السنة ظهر للمقتدر تخليط الخاقانيّ، وعجزه في الوزارة، فأراد عزله، وإعادة أبي الحسن بن الفرات إلى الوزارة، فمنعه مؤنس الخادم عن ابن الفرات لنفوره عنه لأمور، منها: إنفاذ الجيش إلى فارس مع غيره، وإعادته إلى بغداد، وقد ذكرناه، فقال للمقتدر: متى أعدتَه ظنّ الناس أنّك إنّما قبضتَ عليه شرهاً في ماله، والمصلحة أن تستدعي عليَّ بن عيسى من مكّة وتجعله وزيراً، فهو الكافي الثقة، الصحيح العمل، المتين الدين.
فأمر المقتدر بإحضاره، فأنفذ مَن يحضره، فوصل إلى بغداد أوّل سنة إحدى وثلاثمائة، وجلس في الوزارة، وقُبض على الخاقانيّ وسُلّم إليه، فأحسن قبضه، ووسّع عليه، وتولّى عليُّ بن عيسى، ولازم العمل والنظر في الأمور، وردّ المظالم، وأطلق من المكوس شيئاً كثيراً بمكّة وفارس، وأطلق المواخير والمُفسدات بدوْبق، وأسقط زيادات كان الخاقانيُّ قد زادها للجند، لأنّه عمل الدخل والخرج، فرأى الخرج أكثر، فأسقط أولئك، وأمر بعمارة المساجد والجوامع، وتبييضها وفرشها بالحصر، وإشعال الأضواء فيها، وأجرى للأئمة، والقراء، والمؤذنين، أرزاقاً، وأمر بإصلاح البيمارستانات، وعمل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وقرّر فيها فضلاء الأطبّاء، وأنصف المظلومين، وأسقط ما زيد في خراج الضياع، ولمّا عُزل الخاقانيُّ أكثر الناس التزوير على خطّه بمسامحات وإدرارات، فنظر عليُّ بن عيسى في تلك الخطوط، فأنكرها، وأراد إسقاطها، فخاف ذمّ الناس، ورأى أن ينفذها إلى الخاقانيّ ليميّز الصحيح من المزوّر عليه، فيكون الذمّ له، فلمّا عُرضت تلك الخطوط عليه قال: هذه جميعها خطّي وأنا أمرتُ بها؛ فلمّا عاد الرسول إلى عليّ بن عيسى بذلك قال: والله لقد كذب، وقد علم المزوَّر من غيره، ولكنّه اعترف بها ليحمده الناس ويذمّوني؛ وأمر بها فأُجيزتْ.
وقال الخاقانيُّ لولده: يا بنيّ هذه ليست خطّي، ولكنّه أنفذها أليّ وقد عرف الصحيح من السقيم، ولكنّه أراد أن يأخذ الشوك بأيدينا، ويبغّضنا إلى الناس، وقد عكست مقصوده.

.ذكر خلاف سجستان وعودها إلى طاعة أحمد ابن إسماعيل السامانيّ:

وفي هذه السنة أنفذ الأمير أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ عسكراً إلى سِجِستان ليفتحها ثانياً، وكانت قد عصتْ عليه، وخالف مَن بها.
وسبب ذلك أنّ محمَد بن هُرمُز، المعروف بالمولى الصندليّ، كان خارجيّ المذهب، وكان قد أقام ببخارى وهو من أهل سِجِستان، وكان شيخاً كبيراً، فجاء يوماً إلى الحسين بن عليّ بن محمّد العارض يطلب رزقه، فقال له: إنّ الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطاً يعبد الله فيه، حتّى يوافيه أجله؛ فغاظه ذلك، فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصور بن إسحاق، فاستمال جماعةً من الخوارج، ودعا إلى الصَّفّار، وبايع في السرّ لعمرو بن يعقوب بن محمّد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسهم محمّد بن العبّاس، المعروف بابن الحَفّار، وكان شديد القوّة، فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق أميرهم وحبسوه في سجن أرْكٍ وخطبوا لعمرو بن يعقوب، وسلّموا إليه سجستان.
فلمّا بلغ الخبر إلى المير أحمد بن إسماعيل سيّر الجيوش مع الحسين ابن عليّ، مرّةً ثانية إلى زَرَنْجَ، في سنة ثلاثمائة، فحصرها تسعة أشهر، فصعد يوماً محمّد بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور، وقال: ما حاجتكم إلى أذى شيخ لا يصلح إلا للزوم رباط؟ يذكرهم بما قاله العارض ببخارى؛ واتّفق أنّ الصندلي مات، فاستأمن عمرو بن يعقوب الصَّفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن عليّ، وأطلقوا عن منصور بن إسحاق، وكان الحسين بن عليّ يكرم ابن الحفّار ويقرّبه، فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين، فعلم الحسين ذلك، وكان ابن الحفّار يدخل على الحسين، لا يحجب عنه، فدخل إليه يماً وهو مشتمل على سيف، فأمر الحسين بالقبض عليه، وأخذه معه إلى بخارى.
ولمّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى المير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ، وأمر الحسينَ بالرجوع إليهن فرجع ومعه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما، وكان عوده في ذي الحجّة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمدُ منصوراً ابن عمّه إسحاق على نَيسابور وأنفذه إليها، وتوفّي ابن الحفّار.

.ذكر طاعة أهل صقلّية للمقتدر وعودهم إلى طاعة المهديّ العلويّ:

قد ذكرنا سنة سبع وتسعين ومائتين استعمال المهديّ عليَّ بن عمر على صِقلّية، فلمّا وليها كان شيخاً ليّناً، فلم يرض أهل صِقلّية بسيرته، فعزلوه عنهم، وولّوا على أنفسهم أحمد بن قرهب، فلمّا وليّ سيّر سريّة إلى أرض قِلُّورِيَةَ، فغنموا منها، وأسروا من الروم وعادوا.
وأرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليّاً إلى قلعة طَبَرْمين في جيش، وأمره بحصرها، وكان غرضه إذا ملكها أن يجعل بها ولده وأمواله وعبيده، فإذا رأى من أهل صقلّية ما يكره امتنع بها، فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف العسكر عليه، وكرهوا المُقام، فأحرقوا خيمته، وسواد العسكر، وأرادوا قتله، فمنعهم العرب.
ودعا أحمد بن قرهب الناس إلى طاعة المقتدر، فأجابوه إلى ذلك، فخَطب له بصِقلّية، وقَطع خطبة المهديّ، وأخرج ابن قرهب جيشاً في البحر إلى ساحل أفريقية، فلقوا هناك أسطول المهديّ ومقدّمه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوا الأسطول، وقتلوا الحسن، وحملوا رأسه إلى ابن قرهب، وسار الأسطول الصقلّيُّ إلى مدينة سَفَاقُس، فخرّبوها، وساروا إلى طرابلس، فوجدوا فيها القائم بن المهديّ، فعادوا.
ووصلت الخلع السود والألوية إلى ابن قرهب من المقتدر، ثمّ أخرج مراكب فيها جيش إلى قِلُّورِيَةَ، فغنم جيشه، وخربوا وعادوا؛ وسيّر أيضاً اسطولاً إلى إفريقية، فخرج عليه أسطول المهديّ، فظفروا بالذي لابن قرهب وأخذوه، ولم يستقم بعد ذلك لابن قرهب حال، وأدبر أمره، وطمع فيه الناس، وكانوا يخافونه.
وخاف منه أهل جرجنت، وعصوا أمره، وكاتبوا المهديّ، فلمّا رأى ذلك أهل البلاد كاتبوا المهديَّ أيضاً، وكرهوا الفتنة، وثاروا بابن قرهب، وأخذوه أسيراً سنة ثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهديّ مع جماعة من خاصّته، فأمر بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير، فقُتلوا، واستعمل على صقلّية أبا سعيد موسى بن أحمد، وسيّر معه جماعة كثيرة من شيوخ كُتامة، فوصلوا إلى طَرَابُنُش.
وسبب إرسال العسكر معه أنّ ابن قرهب كان قد كتب إلى المهديّ يقول له: إنّ أهل صقلّية يكثرون الشغب على أمرائهم، ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلاّ بعسكر يقهرهم ويزيل الرئاسة عن رؤسائهم، ففعل المهديُّ ذلك، فلمّا وصل معه العسكر خاف منه أهل صقلّية، فاجتمع عليه أهل جرجنت وأهل المدينة وغيرها، فتحصّن منهم أبو سعيد وعمل على نفسه سوراً إلى البحر، وصار المرسى معه، فاقتتلوا، فانهزم أهل صقلّية، وقُتل جماعة من رؤسائهم، وأُسر جماعة، وطل أهل المدينة الأمان، فأمّنهم إلا رجلَيْن هما أثارا الفتنة، فرضوا بذلك وتسلّم الرجلَيْن، وسيّرهما إلى المهديّ بإفريقية، وتسلّم المدينة، وهدم أبوابها، وأتاه كتاب المهديّ يأمره بالعفو عن العامّة.

.ذكر وفاة عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس وولاية عبد الرحمن الناصر:

وفيها توفّي عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأمويُّ، صاحب الأندلس، في ربيع الأوّل، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسواد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، وخلّف أحد عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمّد المقتول، قتله في حدّ من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر.
ولمّا توفّي وليَ بعده ابن ابنه هذا محمّد، واسمه عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هِشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ابن معاوية بن هِشام بن عبد الملك بن مَروان بن الحاكم الأمويّ، وأمّه أمّ ولد تسمّى مرتة، وكان عمره لمّا قُتل أبوه عشرين يوماً.
وكانت ولايته من المستطرف لأنّه كان شاباً، وبالحضرة أعمامه وأعمام أبيه، فلم يختلفوا عليه، ووُلِّيَ الإمارة والبلاد كلّها، وقد اختلف عليهم قبله، وامتنع حصون بكورة رَيّة وحصن بُبَشْتَر فحاربه، حتّى صلحت البلاد بناحيته، وكان مَن بطُليطُلة أيضاً قد خالفوا، فقاتلهم حتّى عادوا إلى الطاعة، ولم يزل يقاتل المخالفين حتّى أذعنوا له، وأطاعوه نيّفاً وعشرين سنة، فاستقامت البلاد، وأمنت في دولته، ومضى لحال سبيله.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة عُزل عبد الله بن إبراهيم المِسْمعيُّ عن فارس وكَرمان واستُعمل عليها بدر الحمّاميُّ، وكان بدر يتقلّد أصبهان، واستُعمل بعده على أصبهان عليُّ بن وهسوذان الديلميُّ.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد، ورسوله من عامل بَرقة، وهي من عمل مصر وما بعدها بأربعة فراسخ لمصر وما وراء ذلك من عمل المغرب، بخبر خارجيّ خرج عليهم، وأنهم ظفروا به وبعسكره، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ووصل على يد الرسول من أنوفهم وآذانهم شيء كثير.
وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد.
وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية، فأهلكت خلقاً كثيراً.
وفيها وُلِّيَ بشر الأفشينيُّ طَرَسُوس.
وفيها قُلّد مؤنس المظفَّر الحرمَينْ والثغور.
وفيها انقضّت الكواكب انقضاضاً كثيراً إلى جهة المشرق.
وفيها مات أسكندروس بن لاون ملك الروم، وملك بعده ابنه، واسمه قسطنطين، وعمره اثنتا عشرة سنة.
وفيها توفّي عبيدالله بن عبدالله بن طاهر بن الحسين، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وفيها توفّي أحمد بن عليّ الحدّاد، وقيل سنة تسع وتسعين ومائتين، وهو الصحيح.
وفيها توفّي أحمد بن يعقوب ابن أخي العرق المقرئ، والحسين بن عمر بن أبي الأخوص، وعليُّ بن طيفور النشويُّ، وأبو عمر القتّات.
وفيها، في ربيع الآخر، توفّي يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم المعروف بالنديم. ثم دخلت:

.سنة إحدى وثلاثمائة:

في هذه السنة خُلع على الأمر أبي العبّاس بن المقتدر بالله، وقُلد أعمال مصر والمغرب، وعمره أربع سنين، واستخلف له على مصر مؤنس الخادم، وأبو العبّاس هذا هو الذي وليَ الخلافة بعد القاهر بالله، ولُقّبَ الراضي بالله.
وخُلع أيضاً على الأمير عليّ بن المقتدر، ووليَ الرّيّ، ودنباوند، وقزوين، وزنجان، وأبهر.
وفيها أُحضر بدار عيسى رجل يُعرف بالحلاّج ويكنّى أبا محمّد، وكان مشعبذاً في قول بعضهم، وصاحب حقيقة في قول بعضهم، ومعه صاحب له، فقيل، إنّه يدّعي الربوبيّة، وصُلب هو وصاحبه ثلاثة أيّام، كلّ يوم من بُكرة إلى انتصاف النهار، ثمّ يؤمَرُ بهما إلى الحبس، وسنذكر أخباره واختلاف الناس فيه عند صلبه.
وفيها، في صفر، عُزل أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان عن الموصل، وقُلّد يُمن الطولونيُّ المعونة بالموصل، ثمّ صُرف عنها في هذه السنة، واستُعمل عليها نحرير الخادم الصغير.
وفيها خالف أبو الهيجاء عبدُ الله بن حَمدان على المقتدر فسُيّر إليه مؤنس المظفَّر، وعلى مقدّمته بنّيّ بن نفسي، خرج إلى الموصل منتصف صفرٍ ومعه جماعة من القوّاد، وخرج مؤنس في ربيع الأوّل، فلمّا علم أبو الهيجاء بذلك قصد مؤنساً مستأمناً من تلقاء نفسه، وورد معه إلى بغداد، فخلع المقتدر عليه.
وفيها توفّي دميانة أمير الثغور وبحر الروم، وقُلّد مكانه ابن بلك.

.ذكر قتل الأمير أبي نصر الساماني وولاية ولده نصر:

وفي هذه السنة قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد السامانيُّ صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مولعاً بالصيد، فخرج إلى فربر متصيّداً، فلمّا انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره، وانصرف، فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان، وهو أبو العبّاس صعلوك، وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها، يخبره بظهور الحسن بن عليّ العلويّ الأطروش بها، وتغلّبه عليها، وأنّه أخرجه عنها، فغمّ ذلك أحمد، وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطيّر الناس من ذلك.
وكان له أسدٌ يربطه كلّ ليلة على باب مبيته، فلا يجسر أحد أن يقربه، فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة، فدخل إليه جماعة من غلمانه، فذبحوه على سريره وهربوا، وكان قَتْله ليلة الخميس لسبع بقين من جُمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة، فحُمل إلى بخارى فدُفن بها، ولُقّب حينئذ بالشهيد، وطُلب أولئك الغلمان، فأُخذ بعضهم فقُتل.
ووليَ الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر بن أحمد، وهو ابن ثماني سنين، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً، وكان موته في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ولُقّب بالسعيد، وبايعه أصحاب أبيه ببخارى بعد دفن أبيه، وكان الذي تولّى ذلك أحمد بن محمّد بن الليث، وكان متولّي أمر بخارى، فحمله على عاتقه، وبايع له الناس، ولّما حمله خدم أبيه ليظهر للناس خافهم وقال: أتريدون أن تقتلوني كما قتلتم أبي؟ فقالوا: لا إنّما نريد أن تكون موضع أبيك أميراً؛ فسكن روعه.
واستصغر الناس نصراً، واستضعفوه، وظنّوا أنّ أمره لا ينتظم مع قوّة عمّ أبيه الأمير إسحاق بن أحمد، وهو شيخ السامانيّة، وهو صاحب سَمَرْقند، ومَيْل الناس بما وراء النهر سوى بخارى إليه وإلى أولاده، وتولّى تدبير دولة السعيد نصر بن أحمد أبو عبدالله محمّد بن أحمد الجَيْهانيُّ، فأمضى الأمور، وضبط المملكة، واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه، ومع هذا، فإنّ أصحاب الأطراف طمعوا في البلاد، فخرجوا من النواحي على ما نذكره.
فممنّ خرج عن طاعته سِجِستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد بسَمرقند، وابناه منصور وإلياس ابنا إسحاق، ومحمّد بن ا لحسين بن مت، وأبو الحسن بن يوسف، والحسين بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد بن جيد، وأحمد بن سهل، وليلى بن نعمان، صاحب العلويّين بَطَبِرستان، ووقّعه سيمجور مع أبي الحسن بن الناصر، وقراتكين، وما كان بن كالي، وخرج عليه إخوته يحى ومنصور وإبراهيم، أولاد أحمد بن إسماعيل، وجعفر بن أبي جعفر، وابن داود، ومحمّد بن إلياس، ونصر بن محمّد بن مت، ومرداويج ووشمكير ابنا زيار، وكان السعيد مظفَّراً منصوراً عليهم.

.ذكر أمر سجستان:

ولّما قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل خالف أهل سجِستان على ولده نصر، وانصرف عنها سيمجور الدواتيٌّ، فولاّها المقتدر بالله بدراً الكبير، فأنفذ إليها الفضلَ بن حميد، وأبا يزيد خالد بن محمد المروزيّ، وكان عُبيد الله بن أحمد الجَيْهانيُّ ببُستَ، والرُّخَّج، وسعد الطالقانيُّ بغَزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل خالد، وانكشف عنهما عبيدالله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه إلى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبُست، ثمّ اعتلَّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور، وعصى على الخليفة، فأنفذ إليه دركاً أخا نجح الطولونيّ، فقاتله فهزمه خالد.
وسار خالد إلى كَرمان، فأنفذ إليه بدر جيشاً، فقاتلهم خالد، فجُرح، وانهزم أصحابه، وأُخذ هو أسيراً، فمات، فحُمل رأسه إلى بغداد.

.ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابن إلياس:

وفي هذه السنة، وهي إحدى وثلاثمائة، خرج على السعيد نصر بن أحمد ابن إسماعيل عمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد وابنه إلياس، وكان إسحاق بسَمَرْقَنْد لّما قُتل أحمد بن إسماعيل ووليَ ابنه نصر بن أحمد، فلمّا بلغه ذلك عصى بها، وقام ابنه إلياس يأمر الجيش، وقوي أمرهما، فساروا نحو بخارى، فسار إليه حمويه بن عليّ في عسكر، وكان ذلك في شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق إلى سَمَرْقَنْد، ثمّ جمع وعاد مرّة ثانية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق أيضاً، وتبعه حموية إلى سَمَرْقَنْد فملكها قهراً.
واختفى إسحاق، وطلبه حموية، ووضع عليه العيون والرصد، فضاق بإسحاق مكانه، فأظهر نفسه، واستأمن إلى حموية فأمّنه وحمله إلى بخارى فأقام بها إلى أن مات.
وأمّا ابنه إلياس فإنّه سار إلى فرغانة، وبقي بها إلى أن خرج ثانياً.

.ذكر ظهور الحسن بن عليّ الأطروش:

وفيها استولى الحسن بن عليّ بن الحسن بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب على طَبَرِسْتان، وكان يلقّب بالناصر.
وكان سبب ظهوره ما نذكره، وقد ذكرنا فيما تقدّم عصيان محمّد ابن هارون على أحمد بن إسماعيل، وهربه منه، وغير ذلك، ثمّ إنّ الأمير أحمد بن إسماعيل استعمل على طبرستان أبا العبّاس عبدالله بن محمّد بن نوح، فأحسن فيهم السيرة، وعدل فيهم، وأكرم مَن بها من العلويّين، وبالغ في الإحسان إليهم، وراسل رؤساء الديلم، وهاداهم، واستمالهم.
وكان الحسن بن عليّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمّد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ابن حسّان ملكهم، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه، وبنى في بلادهم مساجد.
وكان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل: قَزوين، وسالوس، وغيرهما، وكان بمدينة سالوس حصن منيع قديم، فهدمه الأطروش حين أسلم الديلم والجيل؛ ثمّ إنّه جعل يدعوهم إلى الخروج معه إلى طبرستان، فلا يجيبونه إلى ذلك لإحسان ابن نوح، فاتّفق أنّ الأمير أحمد عزل ابنَ نوح عن طبرستان وولاّها سلاماً، فلم يحسن سياسة أهلها، وهاج عليه الديلم، فقاتلهم وهزمهم، واستقال عن ولايتها، فعزله الأمير أحمد، وأعاد إليها ابن نوح، فصلحت البلاد معه.
ثمّ إنّه مات بها، واستعمل عليها أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم صُعلوك، فغيّر رسوم ابن نوح، وأساء السيرة، وقطع عن رؤساء الديلم ما كان يهديه إليهم ابن نوح، فانتهز الحسن بن عليّ الفرصة، وهيّج الديلم عليه ودعاهم إلى الخروج معه، فأجابوه وخرجوا معه، وقصدهم صُعلوك، فالتقوا بمكان يسمّى نَوْرُوز وهو على شاطئ البحر، على يوم من سالوس، فانهزم ابن صُعلوك، وقُتل من أصحابه نحو أربعة آلاف رجل، وحصر الأطروش الباقين ثمّ أمّنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فخرجوا إليه، فأمّنهم وعاد عنهم إلى آمل، وانتهى إليهم الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ، وكان ختَن الأطروش، فقتلهم عن آخرهم لأنّه لم يكن أمّنهم، ولا عاهدهم، واستولى الأطروش على طبرستان.
وخرج صعلوك إلى الرَّيّ، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ثمّ سار منها إلى بغداد، كان الأطروش قد أسلم على يده من الديلم الذين هم وراء أسفيدروذ إلى ناحية آمل، وهم يذهبون مذهب الشيعة.
وكان الأطروش زيديَّ المذهب، شاعراً مفلقاً، ظريفاً، علاّمة، إماماً في الفِقه والدين، كثير المُجون، حسن النادرة.
حُكي عنه أنّه استعمل عبدالله بن المبارك على جُرجان، وكان يُرمى بالأُبنة، فاستعجزه الحسن يوماً في شغل له وأنكره عليه، فقال: أيّها الأمير! أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني؛ فقال: قد بلغني ذلك.
وكان سبب صممه أنّه ضُرب على رأسه بسيف في حرب محمّد بن زيد فطرش؛ وكان له من الأولاد أبو الحسن، وأبو القاسم، وأبو الحسين، فقال يوماً لأبنه أبي الحسن: يا بنيّ! ها هنا شيء من الغراء نلصق به كاغداً؟ فقال: لا، إنّما ها هنا بالخاء، فحقدها عليه، ولم يولّه شيئاً، وولّى ابنيه أبا القاسم والحسين، وكان أبو الحسن ينكر تركه معزولاً، ويقول: أنا أشرف منهما لأنّ أمّي حسنيّة، وأمّهما أمَة.
وكان أبو الحسن شاعراً، وله مناقضات مع ابن المعتزّ، ولحق أبو الحسن بابن أبي الساج، فخرج معه يوماً متصيّداً، فسقط عن دابّته فبقي راجلاً، فمرّ به ابن أبي الساج فقال له: اركب معي على دابّتي! فقال: أيّها الأمير لا يصلح بطلان على دابّة.

.ذكر القرامطة وقتل الجُنّابيّ:

في هذه السنة قُتل أبو سعيد الحسن بن بَهرام الجُنّابيُّ كبير القرامطة، قتله خادم له صَقلبيّ، في الحمّام، فلمّا قتله استدعى رجلاً من أكابر رؤسائهم وقال له: السيّد يستدعيك؛ فلمّا دخل قتله، ففعل ذلك بأربعة نفر من رؤسائهم، واستدعى الخامس، فلمّا دخل فطن لذلك، فأمسك بيد الخادم وصاح، فدخل الناس، وصاح النساء، وجرى بينهم وبين الخادم مناظرات ثمّ قتلوه.
وكان أبو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد، وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، ويرد من أخباره ما يُعلم به محلّه.
ولّما قُتل أبو سعيد كان قد استولى على هَجَر والإحساء والقَطيف والطائف، وسائر بلاد الحرين؛ وكان المقتدر قد كتب إلى أبي سعيد كتاباً ليّناً في معنى مَن عندّه من أسرى المسلمين، ويناظره، ويقيم الدليل على فساد مذهبه، ونفّذه مع الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة بلغهم خبر موته، فأعلموا الخليفة بذلك، فأمرهم بالمسير إلى ولده، فأتوا أبا طاهر بالكتاب، فأكرم الرسل، وأطلق الأسرى، ونفّذهم إلى بغداد، وأجاب عن الكتاب.

.ذكر مسير جيش المهديّ إلى مصر:

في هذه السنة جهّز المهديُّ العساكر من إفريقية، وسيّرها مع ولده أبي القاسم إلى الديار المصريّة، فساروا إلى برقة، واستولوا عليها في ذي الحجّة، وساروا إلى مصر، فملك الإسكندريّة والفيّوم، وصار في يده أكثر البلاد، وضيّق على أهلها، فسيّر إليها المقتدر بالله مؤنساً الخادم في جيش كثيف، فحاربهم وأجلاهم عن مصر، فعادوا إلى المغرب مهزومين.

.ذكر عدّة حوادث:

وفي هذه السنة كثرت الأمراض الدموية بالعراق، ومات بها خلق كثير، وأكثرهم بالحربيّة، فإنّها أُغلقت بها دور كثيرة لفناء أهلها.
وفيها توفّي جعفر بن محمّد بن الحسن الفريابيُّ ببغداد، والقاضي أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدّميُّ الثقفيُّ. ثم دخلت: